نصر دون مجد للجيش الفرنسي المتهم بارتكاب جرائم عنف واغتصاب

في 18 مايو/أيار 1944، استولى الحلفاء على منطقة مونتي كاسينو الإيطالية بعد أربعة أشهر من معارك ضارية. ورغم الشجاعة الكبيرة التي أظهرها الجنود الفرنسيون والمقاتلون الذين جاءوا من دول شمال أفريقيا، على غرار الجزائر والمغرب وتونس، إلا أن هذا النصر رافقه الكثير من التساؤلات بسبب اتهامات بارتكاب جرائم حرب ضد الإيطاليين.  

“معركة مونتي كاسينو كللت بنجاح كبير. فرنسا ستدرك ذلك في يوم من الأيام”. هكذا خاطب الجنرال الفرنسي ألفونس جوان الضباط الذين كانوا معه في ساحة القتال في شهر آب/أغسطس 1944 قبل مغادرة إيطاليا.

هذا القائد أشار في كلمته إلى أهمية عبور واد “كارغليانو” من قبل جنوده الذين أرغموا “العدو” الألماني على الانسحاب من هذا المكان ومن منطقة “مونتي كاسينو” بعد 4 أشهر من معارك قاسية. هذا النصر فتح الطريق واسعا من أجل الوصول إلى العاصمة روما.

لكن بعد مرور 80 عاما، بدأت ذكريات هذه المعارك “المجيدة” تندثر وتمحى من الذاكرة الجماعية بسبب اتهامات بارتكاب الجيش الفرنسي وبعضٌ من مقاتلي شمال أفريقيا، وفي مقدمتهم مقاتلين من المغرب، جرائم حرب وجرائم اغتصاب ضد الإيطاليين.

اقرأ أيضاماكرون يطلق “مسار الذاكرة” عبر تكريم المقاومة تزامنا مع الذكرى الثمانين لتحرير فرنسا

بعد عملية إنزال الحلفاء في جزيرة صقلية ومنطقة كلابر في سبتمبر/أيلول 1943، تعثروا في إيطاليا وواجهوا دفاعات ألمانية متينة على طول خط “غوستاف” الذي كانت تبلغ مسافته نحو 150 كيلومترًا.


الحلفاء يقصفون موقع مونتي كاسينو في شهر فبراير/شباط 1944 © أ ب

وحول هذه الصعوبة، قالت المؤرخة الفرنسية جولي لو غاك: “منطقة كاسينو كانت بمثابة نقطة استراتيجية للقوات الألمانية وكانت تمنحهم نوعًا من التفوق على قوات التحالف التي حاولت بشتى الطرق كسر هذا الخط عبر تنفيذ هجمات عسكرية متتالية ودموية إلى درجة أنها وصفت بمعارك “فيردان” في الحرب العالمية الأولى“.

“ملحمة عسكرية كبرى”

وفي كتابها “نصر دون مجد”، أضافت المؤرخة نفسها: “من شهر يناير/كانون الثاني إلى مايو/أيار 1944، شهد موقع كاسينو أربع معارك قاسية شارك فيها الجيش الفرنسي بجانب القوات الأمريكية ومقاتلين من أفريقيا ومن شمال أفريقيا التي كانت أنذك مستعمرات فرنسية”. وتابعت: “60 بالمئة من عناصر الجيش الفرنسي كانوا ينحدرون من المستعمرات كالجزائر والمغرب وتونس”.

من جهته، كتب الجنرال ديغول في مذكراته حول معركة مونتي كاسينو “الفوج رقم 4 الذي يضم مقاتلين تونسيين أظهر شجاعة لا مثيل لها رغم مقتل العديد منهم. لقد استولوا على منطقة “بلفيدير” بعد معارك ضارية وقعت بين 25 يناير/كانون الثاني و1 فبراير/شباط 1944″.

لكن رغم هذه المكاسب العسكرية، بقي خط “غوستاف” تحت السيطرة الألمانية. لهذا السبب قرر الجنرال جوان تغيير خطته ومهاجمة الجيش الألماني عبر جبال “أورانس” بعد أن كان الألمان يعتقدون بأن مثل هذا الهجوم مستحيل القيام به بسبب التضاريس الصعبة.

ولتحقيق هدفه، اعتمد الجنرال جوان على قدرات المقاتلين الذين جاءوا من دول شمال أفريقيا، وبالأخص على مقاتلين من المغرب.

اقرأ أيضامن هو واسيني بوعرفة، المقاتل غير الغربي الوحيد الذي شارك في إنزال نورماندي في 1944؟

وكتب المؤرخ جون كريستوف نوتان في كتابه “البادية في إيطاليا” حول هذه الهجمات الجبلية، “كانت الطرق وعرة جدا. لكنهم (جنود دول شمال أفريقيا) تمكنوا من اختراق الجبال وايصال العتاد العسكري والأسلحة على ظهر الحمير. كانت استراتيجية عسكرية رابحة ومذهلة من قبل الجنرال جوان الذي يعد أكبر المخططين العسكريين من وجهة نظري”. 

General Alphonse Juin, right, celebrates the Bastille Day holiday in Siena, Italy, on July 14, 1944, with his British counterpart Sir Oliver Leese.
الجنرال ألفونس جوان يحتفل في مدينية سيينا بإيطاليا في يوليو/تموز 1944 بعدما هزم الجيش الألماني في ملحمة مونتي كاسينو رفقة البريطانيين. © أ ب

عشرة آلاف مقاتل مغربي اقتحموا جبال “أورانس” وقاموا بتصفية الوحدات العسكرية الألمانية في غضون ثلاثة أسابيع فقط وتمكنوا من مواصلة طريقهم نحو العاصمة روما.

فيما كتب الجنرال الألماني ألبرت كيسلرينغ عن هذا الهجوم قائلا: “الفرنسيون وجنود المغرب حاربوا بقوة وشجاعة واستغلوا قوتهم للاستيلاء على أصغر شبر من الأرض”.

وفي 4 يونيو/حزيران، دخل الحلفاء أرض العاصمة روما. لكن هذا النصر لم يلق صدى كبيرًا بسبب الإنزال الجوي الذي وقع في منطقة نورماندي. هذه العملية البرمائية ألقت بظلالها على النصر الذي حققه المقاتلون الفرنسيون في منطقة غاريغليانو الإيطالية”، وفق المؤرخ جون كريستوف نوتان.

اعتداءات جنسية عديدة

أما في إيطاليا، بقي النصر الذي حققه الجيش الفرنسي ذكرى سيئة في أذهان الإيطاليات والإيطاليين بسبب التصرفات المشينة التي قام بها جنود المغرب حيث ارتكبوا العديد من الاعتداءات الجنسية في حق نساء إيطاليات.

أطلق على هذه الاعتداءات مصطلح “الفضيحة المغربية” ووقعت في منطقة “سيوسيارا” جنوبي غرب العاصمة روما في 1944.وتم تحميل المقاتلين الذين جاءوا من المغرب مسؤوليتها بالرغم من أنه لم تتم إدانة إلا مقاتل واحد فقط.

من جانبه، وصف الكاتب البريطاني نورمان لورنس الذي كان قائدا عسكريا خلال معركة مونتي كاسينو في كتاب نشره في 1978 تحت عنوان “نابل 1944” اعمال العنف التي ارتكبها المقاتلون من المغرب قائلا: “مقاتلو المستعمرات الفرنسية تصرفوا بتهيج. كلما احتلوا قرية أو مدينة صغيرة، كان هناك مخاوف من ارتكاب اعتداءات جنسية في حق النساء “.

اقرأ أيضافرنسا: بقايا الحرب العالمية الثانية فوق البحر وتحته تثير فضول عشاق التاريخ

والفيلم “لا سيوسيارا الذي أخرج في 1960 يستند إلى هذه الوقائع ويروي معاناة امرأة وابنتها تعرضتا إلى اعتداءات جنسية من قبل مقاتلين من المغرب.

وفي كتابها أيضا، تطرقت المؤرخة جولي غاك إلى هذه القضية الحساسة وكتبت: “عدد هذه الجرائم كان كبيرا”، محصية ما بين 3000 إلى 5000 اعتداء جنسي ارتكب في حق نساء إيطاليات.

وأضافت أن “هذا الكم الهائل من الاعتداءات يمكن تفسيره بالعنف الكبير الذي ميز القتال والمعارك. أسباب أخرى أدت إلى وقوع مثل هذه الاعتداءات من بينها وجود “خلل في القيادة العسكرية ونقص في إدارة وتسيير الجنود”. 

A photo of a Moroccan goumier taken during the Italian campaign in 1944.
صورة لجندي مغربي في مونتي كاسينو © ويكيمديا

ووفق بعض الأصداء في الأوساط الإيطالية، يقال بأن الجنرال جوان منح لجنوده بعد نهاية المعارك استراحة مدتها 50 ساعة وأعطى لهم الضوء الأخضر بارتكاب أعمال عنف واعتداءات جنسية.

لكن لا يوجد أي دليل تاريخي يثبت ذلك وفق المؤرخة جولي غاك التي أكدت أن: “بعض جمعيات الضحايا ادعت أنها وجدت أمرا مكتوبا غداة الحرب، لكن هذه الوثيقة كانت مزيفة وغير حقيقية. على أية حال مثل هذه الأوامر لا تعطى أبدا بشكل كتابي ولا أصدق رواية هذه الجمعية الإيطالية”.

رغم ذلك، تمت إحالة 207 مقاتل فرنسي ومن شمال أفريقيا أمام المحاكم العسكرية الفرنسية. فيما أدين 156 منهم. (87 من المغرب، 51 من الجزائر 12 من فرنسا، 3 من تونس و3 من مدغشقر).

ووفق المؤرخة جولي غاك، المحاكمات لم تكن جدية وكانت سريعة، مشيرة أن أحكاما بالإعدام صدرت في حق 28 مقاتل آخر كانوا ينتمون إلى كتائب عسكرية مجهولة الهوية.

وإلى ذلك، يذكر المؤرخ جون كريستوف نوتان، بأنه تبادل الحديث مع بعض المقاتلين القدماء الذين شاركوا في معركة ” لا سيوسيارا” وقالوا له: “في غالبية الأحيان، كان جزاء العسكريين المذنبين القتل بالرصاص وبطريقة وحشية. كنا نطلب منهم الخروج من الخطوط الدفاعية الفرنسية والتوجه صوب الجنود الألمان. كانوا يقتلون بهذه الطريقة”.

لكن مدون كتاب “بادية إيطاليا” يعتقد أنه كان “من السهل جدا اتهام الجنود الذين جاءوا من المغرب”، مشيرا أن مقاتلين آخرين قاموا بأفعال مماثلة. “الإيطاليون قاموا بحملة دعائية كبيرة من أجل انتقاد الحلفاء وذلك بوصفهم بأنهم رجال عنيفون. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تم إطلاق حملة إعلامية في ألمانيا بعنوان ” الخجل الأسود” ضد تواجد مقاتلين من المستعمرات الفرنسية في إقليم ريناني الألماني.

ولم ينف هذا المختص في تاريخ الحرب العالمية الثانية وقوع اعتداءات جنسية طالت حسبه ما بين 300 إلى 1000 امرأة. وقال في هذا الشأن: “عندما دونت كتابي، طرحوا علي السؤال هل أنوي حقيقة الحديث عن هذه الاعتداءات”، وأضافوا: “إذا أردت أن تكرم مقاتلي الحرب العالمية الثانية عليك أن تهتم بجميع جوانب هذه الحرب، بما في ذلك الاعتداءات الجنسية. لأنك إذا أغمضت العين عن هذه الأحداث فكأنك أصبحت متواطئا معهم وقبلتهم”.

استغلال اليمين المتطرف لهذه الأحداث

ورغم مرور 80 عاما عن هذه الأحداث، إلا أنها لا تزال مصدر جدل في إيطاليا. ففي 2018، تم هدم تمثال تذكاري شيد لتكريم 175 جنديا من المستعمرات الفرنسية السابقة الذين شاركوا في معارك وقعت في قرية “بونتي كورفو” الواقعة قرب منطقة مونتي كاسينو.

كما تم أيضا اتهام البابا فرانسوا بزيارة المقبرة العسكرية الفرنسية في روما حيث دفن 1200 جندي قتلوا خلال المعارك من بينهم العديد من الجنود الذين جاءوا من المغرب.

e pape François bénissant les participants au début de l'audience générale hebdomadaire, le 25 janvier 2023, dans la salle Paul-VI au Vatican
البابا فرانسوا زار في 2021 إحدى المقابر لجنود فرنسيين بإيطاليا . 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 فابي تازياني @ أ ب

هذا، وقدمت فرنسا تعويضات مالية لحوالي 1500 من ضحايا الاعتداءات الجنسية لكنها لم تعتذر. لهذا السبب لاتزال بعض الجمعيات الإيطالية، على غرار الجمعية الإيطالية الوطنية لضحايا جنود المغرب تطالب بالعدالة، لكن دون جدوى بسبب “تسييس هذا الموضوع” حسب كاميلا جيانوماسو، وهي باحثة في جامعة روما وصاحبة بحث أكاديمي “الفضيحة المغربية”، التي قالت:” اليمين المتطرف هو الوحيد الذي يعتقد بأن المسؤولية يجب أن تكون على عاتق مقاتلي شمال أفريقيا، لكن في الحقيقة، المسؤولية تقع على عاتق قوات الحلفاء بشكل عام”.

اقرأ أيضاالحرب العالمية الثانية: ذكرى الإنزال بين التفاهمات والتناقضات؟

من جهته، دعا العضو في مجلس الشيوخ الإيطالي أندريا دي بريامو من حزب “فراتيلي” الذي تنتمي إليه رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني (اليمين المتطرف) إلى المصادقة على قانون للاحتفال بيوم تذكاري تكريما لضحايا الاعتداءات الجنسية.

أما المؤرخ الكندي ماثيو شبين والذي أجرى دراسة بعنوان “مقاتلو المغرب في إيطاليا” فلقد قال بأن “الجرائم التي ارتكبت في إيطاليا أصبحت اليوم تدرس في الجامعات، منهيا “إنه موضوع معقد ويحتاج إلى المزيد من البحث لمزيد من المعرفة “.

ستيفاني ترويار

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحلفاء يقصفون موقع مونتي كاسينو في شهر فبراير/شباط 1944
الحلفاء يقصفون موقع مونتي كاسينو في شهر فبراير/شباط 1944 © أ ب

 

 

 

 

 

General Alphonse Juin, right, celebrates the Bastille Day holiday in Siena, Italy, on July 14, 1944, with his British counterpart Sir Oliver Leese.
الجنرال ألفونس جوان يحتفل في مدينية سيينا بإيطاليا في يوليو/تموز 1944 بعدما هزم الجيش الألماني في ملحمة مونتي كاسينو رفقة البريطانيين. © أ ب

 

 

A photo of a Moroccan goumier taken during the Italian campaign in 1944.
صورة لجندي مغربي في مونتي كاسينو © ويكيمديا


Source link

عن عبد الله

المؤسس و الرئيس التنفيذي لموقع الجزائر 48

شاهد أيضاً

أصوات فلسطينية: البيت الفلسطيني يحتاج قيادة جديدة تحمي الأرض والشعب | سياسة

لم يكن انعقاد ملتقى الحوار الفلسطيني الثاني في إسطنبول مطلع هذا الأسبوع حدثا عاديا، ليس …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *